فصل: الفصل الثامن والتسعون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثامن والتسعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إخواني‏:‏ من عرف ما بين يديه لم يؤثر الهوى ولم يلتفت إليه، ومن تفكر في رحيل من كان لديه صار النهوض للتزود متعيناً عليه‏.‏

رحل الأحبة عـن ديارهـم *** أهون بما أخذوا وما تركـوا

وعلمت أين مضى الخليط فما *** أنا بالمبالـي أية سـلـكـوا

ونفوسنا كحـمـائم وقـفـت *** للصائدين ودونها الـشـبـك

متضربات في حـبـائلـهـا *** وهي جناح ضمه الشـرك

أن الملوك إذا هم احتضـروا *** ودوا هنالك أنهم نـسـكـوا

كم فرح بشهر وإهلاله متهلل لرؤية هلاله اختطفه الموت في خلاله، كم مائل إلى جمع ماله تركه تركة ومرّ بأثقاله، هل رحم الموت مريضاً لضعف أوصاله‏؟‏ هل ترك كاسباً لأجل أطفاله‏؟‏ هل أمهل ذا عيال من جرا عياله‏؟‏ كم راع قصراً‏؟‏ وما راعى عن أبطاله، كم أشرف على شريف فلم ينظر في خلاله‏؟‏ كم خرق درعاً نبيلاً بوقع نباله‏؟‏ كم أيتم طفلاً صغيراً ولم يباله‏؟‏ كم شد نفساً في سعة نعاماه وشماله‏؟‏ كم بعث عليلاً إلى البلى‏؟‏ بعد التراقي إلى إبلاله فرقى روحه إلى التراقي ولم ينظر في حاله‏.‏

أليس إلى الآجال نهوي وخلفنـا *** من الموت حادٍ لا يغب عجول

دع الفكر في حب البقاء وطوله *** فهمك لا العمر القصير يطول

ومن نظر الدنيا بعين حـقـيقة *** تيقن أن العيش سـوف يزول

ومـا هـذه الأيام إلا فـوارس *** تطاردنا والنـائبـات خـيول

بينا محب الدنيا في اختيال ومرح، وكلما جاء باباً من أبوابها فتح، وكلما عانى أمراً من أرها صلح، فبينا هو في لذاته يدير القدح، قدح زناد العمر في حراق القدح فمن يستدرك ما فات‏؟‏ ومن يداوي ما جرح‏؟‏‏.‏

بينما المرء غافـل إذا أتـاه *** من يد الموت سالب لا يصد

فتأهب لمالـه كـل نـفـس *** عرضة الأسر إنما الأمر جد

إلى كم تعصي وتتمرد‏؟‏ وأقبح من قبحك أنك تتعمد، يا رديّ العزم يا سيّء المقصد يا نقي الثوب والقلب أسود، ما هذا الأمل ولست بمخلد‏؟‏ يا مستوراً على القبيح أم تجحد أما الطريق طويلة‏؟‏ فمتى تتزود‏؟‏ تخلص من أسر الهوى فإنك مقيد، أتشتري لذة ساعة بعذاب سرمد‏؟‏

سبيلك في الدنيا سبيل مسافـر *** ولا بد من زاد لكل مسـافـر

ولا بد للإنسان من حمل عـدة *** ولا سيما إن خيف صولة قاهر

يا مدمن الذنوب منذ كان غلاماً، علام عوّلت قل لي علاما‏؟‏ أتأمن مأتى من أتى حراما‏؟‏ قد ترى ما حلّ بهم، إليك قد ترامى أين المجتمعون على خمورهم والندامى‏؟‏ كل القوم في قبورهم ندامى، أما ما جرى على العصاة يكفي إماما‏؟‏ لقد ضيّعنا حديثا طويلاً وكلاماً ما أرى إلاّ داءً عقاما‏:‏

يا ليت شعري ما ادخـرتَ *** ليوم بؤسك وافتـقـارك

فلتـنـزلـن بـمـنـزل *** تحتاج فيه إلى ادّخـارك

أفنيتَ عمرك باغتـرارك *** ومناك فيه بانـتـظـارك

ونسيتَ مـا لابـدَّ مـنـه *** وكان أولـى بـادّكـارك

ولو اعتبرت بـمـا تـرى *** لكفاك علماً باعتـبـارك

لك سـاعة تـأتـيك مـن *** ساعات ليلك أو نهـارك

فتصير محتضـراً بـهـا *** فتهي من قبل احتضارك

من قبل أن تقلي وتقصـي *** ثم تـخـرج مـن ديارك

من قـبـل أن يتـثـاقـل *** الزوّار عنك وعن مزارك

متى تفيق من هذا المرض المراض‏؟‏ متى تستدرك هذه الأوقات الطوال العراض‏؟‏ يا عرض المنون كيف تبقي الأعراض‏؟‏ أما الأعمار في كل يوم في انقراض‏؟‏ لقد نبت قبل شكة السهم صكة المعراض، أما ترى الراحلين ماضياً خلف ماض‏؟‏ كم بنيان ما تم حتى تم مأتم‏؟‏ وهذا قد استفاض، إن الموت إليك كما كان لأبويك في ارتكاض، إن لم تقدر على مشارع الصالحين فرد باقي الحياض، إن لم يكن لك ابن لبون فلتكن بنت مخاض، إلى متى‏؟‏ وحتى متى‏؟‏ أتعبت الرواض، كلما بنينا نقضت ولا بناء مع نقاض، يا من قد باع نفسه بلذة ساعة بيعاً عن تراض، لبئس ما لبست أتدري ما تعتاض‏؟‏ يا علة لا كالعلل و يا مرضاً لا كالأمراض‏.‏

لقد أخبرتك الحادثات نزولـهـا *** ونادتك إلا أن سمعك ذو وقـر

تنوح وتبكي للأحبة إن مضـوا *** ونفسك لا تبكي وأنت على الإثر

يا مخالفاً من نهاه وأمره، يا مضيّعاً في البطالة عمره، الزمان صولجان والعمر كرة الدنيا بحر، والساحل المقبرة احذر نوائبها فإن مشاربها كدرة، على أنها مزرعة يحصد كل ما بذره فلا تحتقر معصية فربما أحرقت شررة، أما عرفت سر ‏"‏ولا تقْرَبا هذهِ الشَّجَرَة‏"‏، لو اقتنع اكتفى ولكن المحنة الشرة‏.‏

أخواني‏:‏ كل مقاتل ليس معه سلاح عزم مغلوب، إذا برز شجاع اليقظة بسلاح الجد هشم وجه الأمل وهزم جيوش الزلل، إذا استشعرت النفس زرمانقة الزهد ودخلت مترهبنة دير العزوف وجدت أنيس، أنا جليس من ذكرني، الخلوة شرك لصيد الموانسة فأخفى الصيادين شخصاً ، وأقلهم حركة أكثرهم التقاطاً للصيد ما صاد هر صاح، وحل المخالطة يلزم المتهذب المتمذهب رفع أذيال قميص الدين‏.‏

قيل للحسن ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها‏؟‏ قال لأنهم‏:‏ خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره‏:‏

أبداً نفوس الطالبـين *** إلى طلولكم تـحـن

وكذا القلوب بذكركـم *** بعد المخافة تطمـئن

جنت بحبكـم ومـن *** يهوى يجنُّ ولا يجن

بحياتكـم يا سـادتـي *** جودوا بوصلكم ومنوا

رحم الله أعظماً طالما نصبت وانتصبت، جنَّ عليها الليل فلما تمكن وثبت، وثبت إن ذكرت عدله رهبت وهربت، وإن تصورت فضله فرحت وطربت، عرفت أذنبت عن خدمته إنها قد أذنبت، هبت على قلوبهم عقيم الحذر فاقشعرّت وندبت، فبكت عليها سحاب الرجاء فاهتزت وربت، حسبك إن قوماً موتى تحيى بذكرهم النفوس وإن قوماً أحياء تقسو برؤيتهم القلوب، سلام الله على تلك القبور ورضوان الله حشو تلك اللحود‏:‏

طلول إذا دمعي شكا لبـين بـينـهـا *** شكى غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

أماكن تعبدهم باكية ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر وذهب ليل النصب وطلع الفجر، جاء في الحديث‏:‏ تحت شجرة طوبى مستراح العابدين، إنما يطيب مكان الاستراحة بإجراء حديث التعب وإنما يلذ الظل البارد لمن تأذّى بحرِّ الهجير‏.‏

إخواني‏:‏ مثلوا الاستراحة تحت شجرة طوبى يهون عليكم السفر، ادأبوا في السير، فقد لاح العلم‏:‏

لمـا وردنـا الـقـادسـية *** حيث مجتمـع الـرفـاق

وشممت من أرض الحجاز *** نسيمَ أنـفـاس الـعـراق

أيقنت لي ولـمـن أحـب *** بجمع شـمـلٍ واتـفـاقِ

وضحكت من طيب الوصال *** كما بكيت مـن الـفـراق

ما بـينـنـا إلاّ تـصـرّم *** هذه السبـع الـبـواقـي

حتـى يطـول حـديثـنـا *** بصنوف ما كنا نـلاقـي

الفصل التاسع والتسعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا هذا هون بأمر الدنيا تهن، وقدّر أنها قط لم تكن، واحفظ دينك من مكرها وصن، فمتى وفت ومتى لم تخن‏؟‏ للمتنبي‏:‏

لا تلق دهركَ إلاّ غيرَ مكـتـرث *** ما دام يصحبُ فيه روحكَ البـدنُ

فما يديم سروراً ما سـررت بـه *** ولا يُرَدُّ عليك الفـائتُ الـحـزنُ

فما أضرَّ بأهل العـشـق أنـهـمُ *** هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا

تفنى عيونهم دمعاً وأنـفـسـهـم *** في أثرِ كلِّ قبيحٍ وجهه حَـسَـنُ

تحملوا حملتـكـم كـل نـاحـية *** فكل بين على الـيوم مـؤتـمـن

ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ *** إن متُّ شوقاً ولا فيها لها ثـمـنُ

سهرتُ بعدَ رحيلي وحشةً لـكـمُ *** ثم استمرَّ مريري وارعوى الوَسَنُ

إنما الدنيا حلم نائم، وقائلة راقد، ومعبَر مُعتبِرْ وضحكة مستعبِرْ، تالله ما أعجب بمالها من نظر في مالها، ولا بنى قصورها من عرف غرورها، ولا مد باع الأمل فباع وشرى بها من تذكر مر شرابها، إنها إذا طغت على الطعام تطغى، وإذا بغى نكاحها على العفاف تبغى، وكأنها تقصد هلاك محبها وتبغى، وكم عذلت في فتكها بالفتى الفتى‏؟‏ وتلغى، أما دردرها فغرت‏؟‏ فلما فرغت فغرت فاها فرغت للظعن، أما سحبت قرون قارون مع أقرانه إلى القرار في قرن، أما كفكفت بكفها كف مكفوف حبها فأرتك فن ما يكون فيك في كفن، تالله لقد لقي الغبي غب غباوته فلما انجلى غيهب عيبته رأى الغبن والغبن‏.‏

يا أرباب اللمم الشماط، الموت بكم قد أحاط، هذا العدو منازل فالزموا الرباط، ما هذه الفتور‏؟‏ ومهر الحور الجد والنشاط، إياكم والزلل فكم من دم أشاط‏؟‏ أما سمعتم منادي ‏"‏وتلكَ القُرى أَهلكْناهُمْ‏"‏، أما ينذركم أعلام ‏"‏وكذلكَ أَخْذُ رَبِّكَ‏"‏، أما يفصم عرى عزائمكم ‏"‏وكم قَصَمْنا منْ قريةٍ‏"‏، أما يقصر من قصوركم ‏"‏وبئرٍ معطَّلةٍ وقصرٍ مَشيد‏"‏، أما سمعتم هاتف العبر ينادي ‏"‏فكُلاًّ أخذنا بذنبِهِ‏"‏، إذا رأيتم المبارزين بالخطأ قد اتسع لهم مجال الإمهال فلا تستعجل لهم ‏"‏إنما نُملي لهُمْ‏"‏، بينا القوم على غرور سرورهم ‏"‏أَخذْناهُمْ بَغْتَةً‏"‏، يا سالكي سبيلهم انحرفوا عن هذه الجادة‏.‏

يا هذا‏:‏ ظلمك لنفسك غاية في القبيح، إلا أن ظلمك لغيرك أقبح، ويحك إن لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تعطه فلا تأخذ منه، لا تشابهن الحية فإنها تأتي إلى الموضع الذي قد حفره غيرها فتسكنه، ولا تتمثلنَّ بالعقاب فإنه يتكاسل عن طلب الرزق ويصعد على مرقب عال، فأيّ طيرٍ صاد صيداً اتبعه، فلا تكون له همة إلا القاء صيده والنجاة بنفسه، في الحيوانات أخيار وأشرار كبني آدم فالتقط خير الخلال‏.‏ وخلِّ خسيسها، ولا تكن العصافير أحسن منك مروة، إذا أوذي أحدهما صاح فاجتمعن لنصرته، وإذا وقع فرخها طرن حوله يعلمنه الطيران‏.‏

يا هذا‏:‏ تخلَّق بإعانة الإخوان بخلق النملة فإنها قد تجد جرادة لا تطيق حملها فتعود مستغيثة بأخواتها فترى خلفها كالخيط الأسود قد جئن لإعانتها، فإذا وصلن بالمحمول إلى بيتها رفهنه عليها، هيهات إن الطبع الردي لا يليق به الخير، هذه الخنفساء إذا دفنت في الورد لم تتحرك فإذا أعيدت إلى الروث رتعت، وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمج سمها فيه وكلٌّ إلى طبعه عائد، إلاّ أن الرياضة قد تزيل الشر جملة وقد تخفف، كما أن غسل الأثر إن لم يزله خفف، إن دمتَ على سلوك الجادة رجونا لك الوصول وإن طال السرى‏.‏

يا هذا‏:‏ الفيل والجمل يسْبحان ولكن الفيل مليح السباحة، والجمل يسبح على جنب فيفتضح عند سباحة الفيل، ثم كلاهما يعبر، إذا لم تطق منازلة الحرب فكن من حراس الخيم إذا رأيت الباب مسدوداً في وجهك فارض بالوقوف خارج الدار مع السؤال، إذا لم تظفرك الحروب فسالم، أترى يصلح هذا القلب بعد الفساد‏؟‏ أترى يتبدل بالبياض هذا السواد‏؟‏ كم أقول عسى أصلح‏؟‏ ولعل وكلما استوى قدمي زل، كم تتغير الأحوال‏؟‏ وما أتغير، كم تصح لي الطريق وأتحوّل‏:‏

لله أمـر مـن الأيام أطـلـبـه *** هيهات أطلب شيئاً غير مطلوب

وحاجة أتقاضاها وتمطـلـنـي *** كأنها حاجة في نفس يعقـوب

إلى كم تقول سأتوب‏؟‏ ألم يخجل اللسان الكذوب‏:‏

كلما أملت يوماً صـالـحـاً *** عرض المقدور لي في أملي

اقطع الدهر بظـنٍ حـسـن *** واجلي غمرة ما تنـجـلـي

وأرى الأيام لا تدنـي الـذي *** أرتجي منك وتدني اجـلـي

إذا كانت كرة القلب بحكم صولجان التقليب بطلت الحيل‏.‏ لما قرب جبريل وميكائيل اهتزت الملائكة فخراً بقرب جنسها من جناب العزة، فقطع من بين أغصانها شجرة هاروت وكسر فنن ماروت، وأخذ من لبها كرة ‏"‏وإنَّ عليكَ لعنتي‏"‏ فتزودت الملائكة في سفر العبودية بزاد الحذر، وقادت في سبل معروفها بخت التطوع للمنقطعين ‏"‏ويستغفرون لمن في الأرض‏"‏ نودي من نادى الأفضال ‏"‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏"‏ فسارت الأعمال إلى باب الجزاء فصيح بالدليل ‏"‏ولولا أن ثبَّتناك‏"‏ فقال ‏"‏ما منكم من ينجيه عمله‏"‏‏.‏

فيا لسان القلق تكلم بعبارة الدمع لعله يقع في سمع القبول، فمراد الممرض أنين المبتلي‏.‏ النظر في هذه الأمور قلقل قلوب العارفين، فكانوا يبكون الدماء، اجتمعت أخوان القوم على القلوب فأوقدت نار الحذر، فكان الدمع صاحب الخبر فتم، أقلقهم الخوف والفرق أطافت بقلوبهم الحرق، لباسهم ملفقات الخرق طعامهم ما حضر واتفق، يا نورهم إذا جن الغسق يا حسن دمعهم محدقاً بالحدق انقطع السلك‏.‏ فسالت على نسق، فكتبت عذرها في الخد لا في الورق، ذابت أجسامهم فلم يبق إلا رمق، فلاحظهم العفو لطفاً بهم ورفق، لو رأيتهم يتشبثون بذيل الظلام ويأنسون بنوح الحمام ويهربون إلى الفلوات وغاية لذاتهم الخلوات‏.‏

نواح الحمام مسخر للمشتاق لا يريد منه أجرة بينهما أنس ممزوج بمنافرة‏:‏

إن كنت تنوح يا حمام البان *** للبين فأين شاهد الأحزان

أجفانك للدموع أم أجفانـي *** لا يقبل مدع بلا برهـان

الفصل المائة ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من أنفاسه محفوظة وأعماله ملحوظة، أينفق العمر النفيس في نيل الهوى الخسيس‏؟‏

جدَّ الزمان وأنت تلـعـب *** والعمر لا في شيء يذهب

كم كم تقول غـداً أتـوب *** غداً غداً والموت أقـرب

أما عمرك كل يوم ينتهب‏؟‏ أما المعظم منه قد ذهب‏؟‏ في أي شيء، في جمع الذهب‏؟‏ تبخل بالمال والعمر تهب، يا من إذا خلا تفكر وحسب، فأما نزول الموت فما حسب، لك نوبة لا تشبه النوب، بين يديك كربة لا كالكرب، تطلب النجاة ولكن لا من باب الطلب، تقف في الصلاة إن صلاتك عجب، الجسم حاضر والقلب في شعب، الجسد بالعراق والقلب في حلب، الفهم أعجمي واللفظ لفظ العرب، أنا أعلم بك منك حب الهوى قد غلب، ومتى أسر الهوى قلباً لم يفلح وكتب‏.‏

يا آدمي أتدري ما مـنـيتَ بـه *** أم دون ذهنك سترٌ ليس ينجابُ

يوم ويوم ويفنى العمر منطـوياً *** عام جديب وعام فيه إخصـابُ

فلا تغرنك الدنيا بزخـرفـهـا *** فأريها أن بلاها عاقل صـاب

والحزم يجني أموراً كلها شرف *** والخرق يجني أموراً كلها عاب

كأنكم بالدنيا التي تولت قد تولت، وبالنفوس الكريمة قد هانت وذلت، وبكؤوس الأسى قد انهلت وعلت، وبحمول الظاعنين على الأسف قد استقلت، متى يقال لهذه الغمرة التي جلت قد تجلت‏؟‏ واعجباً لنفس ما تتنبه وقد زلت، كلما عقدنا عقدة تنفعها حلت، كم مستيقظ وقد فات الوقت ينظر إلى نفسه بعين المقت، ويصيح بنصيحة لقد صدقت، وينادي الكسل أنت الذي عوقت فيجيبه أنت من سكرك ما أفقت، كم قدم إلى القبور قادم‏؟‏ كلهم على فراش الندم نادم‏.‏

أطاعوا ذا الخداع وصدقـوه *** وكم نصح النصيح فكذبـوه

ولم يرضوا بما سكنوا مشيداً *** إلى أن فضضوه وأذهبـوه

ألظوا بالقبـيح وتـابـعـوه *** ولو أمروا به لتجـنـبـوه

نهاهم عن طلاب المال زهد *** ونادى الحرص ويلكم اطلبوه

فألقاها إلى أسماع غـشـر *** إذا عرفوا الطريق تنكبـوه

وحبل العيش منتكث ضعيف *** ونعم الرأي أن لا تجـذبـوه

حسبتم يا بنـي حـواء شـيئاً *** فجائكم الذي لم تحـسـبـوه

أديل الشر منكم فـاحـذروه *** ومات الخير فيكم فانـدبـوه

إلى كم بالهوى تغري وتلهج‏؟‏ أنسيت أنك عن محبوبك تزعج‏؟‏ تفكر في حلة من البلى لك تُنسج، يا من بضاعته كلها بهرج، ضيقت على نفسك‏.‏ فلا مخرج، انتبه سريعاً فالخيول تسرج‏:‏

ولم يبق من أيام جمع إلى منى *** إلى موقف التجمير غير أماني

يا عبيد فلسه يا عدو نفسه تعانق الدنيا بيد الحرص عناق اللام للألف، وتنزل الدرهم من القلب منزلة البرء من الدنف، ترش ماء العيش حول الحانوت وتنظر إلى الدرهم لا فيه، وتنصب ميزان البخس ومكيال التطفيف ‏"‏والغدر ثالثة الأثافي‏"‏ ويحك أتبحث عن حتفك بظلفك‏؟‏ وتجدع بسيفك مارن أنفك، ما أكرم نفسه قط من لم يهنها، فاحذرها فكل ما يجري عليك منها، حاسبها قبل يوم الحساب وزِنْها، وخف شين شينها إن شئت عزها وزنها، واحفر لها زبية العزلة وإن أبت فادفنها، واحضرها على الرغم في رغام مسكها ومسكنها، دنها بما التذت آلاتها لا تهادنها‏.‏

هذه قصص النجاة، قد أمليتُها فعنونها، هذه جوار شنات المواعظ قد جمعتها فاعجنها، يا موثق الأقدام بقيد العوائق، أجود ما للعصفور قطع السباق، لو تفكر الطائر في الذبح ما حام حول الفخ، من طلب المعالي سهر الليالي، لولا صبر المضمر على قلة العلف ما قيل سباق‏:‏

هوّن في الليل عليها الـغـررا *** إن العلى مقيدات بـالـسـرى

فركبتْ بسوقـهـا رؤوسـهـا *** حتى تخيلنا الحجول الـغـررا

علمها النوم علـى ربـاطـهـا *** ذليلة أن تستطيب الـسـهـرا

قد تركت مطعمها لشـوقـهـا *** تقول كل الصيد في جوف الفرا

سينقشع غيم التعب عن فجر الأجر، كم صبر بشر عن شهوة حلوة، حتى سمع كلمة خلوة، كل يا من لم يأكل ما مد سجاف نعم العبد على قبة ‏"‏ووهبنا له‏"‏ حتى جرب في أمانة ‏"‏إنا وجدناه صابراً‏"‏ من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه‏.‏

كان بعض النجارين يبيع الخشب وكان عنده قطعة آبنوس ملقاة تحت الخشب فاشتريت منه فدخل دار الملك بعد مدة فإذا بها قد جعلت سريراً للملك فوقف متعجباً وقال‏:‏ لقد كنت لا أعبأ بهذه فكيف وصلت إلى هذا المقام‏؟‏ فهتف به لسان المفهم نائباً عنها‏:‏ كم صبرت على ضرب الفوس ونشر المناشير‏؟‏ حتى بلغت هذا المقام‏:‏

جئت أشكو فاستوقفتني إلى أن *** كلمتني من قبل أن كلمتنـي

وفدتني من السقـام ولـكـن *** أنفدتني هماً إلى أن فدتنـي

لمن أصفى واصف‏؟‏ أفي عزمك اتباعي فأقف‏؟‏ الليل يضج من طول نومك والنهار يستغيث من قبح فعلك‏:‏

يا أيها الراقد كـم تـرقـد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعد

وخذ من الليل وساعـاتـه *** حظاً إذا ما هجع الرقـد

من نام حتى ينقضي ليلـه *** لم يبلغ المنزل أو يجهـد

قل لذوي الألباب أهل التقى *** قنطرة الأرض لكم موعد

آخر الفصول المائة قال المنشئ‏:‏ ولما أتممت المائة التي ضمنتها رأيت الثلاثة الأول كالخارج عن الوعظيات لمشابهتها القصص، فغرمت ها هنا ثلاثة عوضها لتخلص مائة وعظية والله الموفق‏.‏

الفصل الأول ‏[‏بدلا من الأول‏]‏

أخواني‏:‏ الموت مقاتل يقصد المقاتل، فما ينفعك أن تقاتل‏.‏

للمتنبي‏:‏

نعد المشرفية والعـوالـي *** وتقتلنا المنون بلا قـتـال

ونرتبط السوابق مقـربـات *** وما ينجين من خبب الليالي

ومن لم يعشق الدنيا قديمـاً *** ولكن لا سبيل إلى الوصال

نصيبك في حياتك من حبيب *** نصيبك في منامك من خيال

يدفن بعضنا بعضاً وتمشـي *** أواخرنا على هام الأوالـي

وكم عين مقبلة النـواحـي *** كحيل بالجنادل والـرمـال

لقد وعظ الزمان وما قصّر وتكلم الصامت وما أقصر، ولاح الهدى فإنما الشأن فيمن أبصر، ونطقت المواعظ بزجرٍ لا يُحصر، هلكت ثموداً بصيحة وعاد بريح صرصر، وكسر كسرى وقصر قيصر، تالله ما يبالي ميزان الجزاء أَرْبَح أم أَخْسَر‏؟‏ ولا حاكم العدل من أفلس وأعسر هذا أمر مجمل، وفي غد يفسر‏.‏

أيها المتحرك في الدنيا، لا بد من سكون، لا يغرنك سهلها فبعد السهل حزون، كم سلبتك من حبيب‏؟‏ وبعض القبح يهون، ما فرحها مستقيم ولا تَرَحُها مأمون، إنها لدار الغرور ودائر الهون كم تلون‏؟‏ ولكن أين العقل من مجنون، فهلا أضعنا الحديث قلب هذا مفتون‏:‏

أيها السكران بالآمال *** قد حان الـرحـيل

ومشيب الرأس والفو *** دين للمـوت دلـيل

فانتبه من رقدة الغف *** لة والعمر قـلـيل

واطرح سوف وحتى *** فمهـا داء دخـيل

كأنك بما يزعج ويروع وقد قلع الأصول وقطع الفروع، يا نائماً في انتباهه كم هذا الهجوع‏؟‏ أينفعك حين الموت جري الدموع‏؟‏ إذا رشق سهم التلف فطاحت الدروع وأتى حاصد الزرع وأين الزروع‏؟‏ وخلت المنازل وفرغت الربوع، وناب غراب البين عن الورقا السجوع‏.‏

قرن مضى ثم نـمـى غـيره *** كأنه في كـل عـام نـبـات

أقل من في الأرض مستيقـظ *** وإنما أكثرهم فـي سـبـات

حول خصيب أثـره مـجـدب *** فاذخر من المخصب للمجدبات

أما علمت أن الدنيا غدا إمارة‏؟‏ أما برد لذاتها ينقلب حرارة‏؟‏ أما ربحها على التحقيق خسارة‏؟‏ أما ينقص الدين كلما زادت عمارة‏؟‏ أما قتلت أحبابها وإليك الإشارة‏؟‏ إذا قال محبها هي لي ومعي أهلكته وقالت‏:‏ اسمعي يا جارة‏.‏

إنما الدنـيا بـلاء *** ليس لدينا ثبـوتُ

إنما الدنيا كـبـيتٍ *** نسجته العنكبوتُ

إنما يكفيك منهـا *** أيها الراغب قوتُ

يا من عاهدنا على الطاعة في الإعلان والإسرار، كيف استحل حل عقد التوبة وعقد الإصرار‏؟‏ متى يخرج العاصي من هذه الدار‏؟‏ شيب وعيب ونهاية الإدبار، ضدان بعيدان ثلج ونار، كم بينكم وبين المتقين الأبرار‏؟‏ ملكتم الدنيا وملكوها فالقوم أحرار، كانت لهم إنفة فاحتموا من العار، وعرفوا قدر الزمان فانتهبوا الأعمار، فلو مددتم أبواعكم ما كنت منهم كأشبار، لو اطلعتم عليهم في أوقات الأسحار لرأيتم نجوم الهدى لا بل هي أقمار، قاموا جميع الدجى على قدم الاعتذار ثم تساندوا إلى رواحل البكاء والاستغفار، وقوي كربهم فهبت لهم نكباء لطف معطار، رفعوا رسائل الجوى فعاد جواب الأبرار‏:‏

لا توقدوا في القلب نار الجحيم *** كفى سقامي لفؤادي غـريم

ما زلت عن حبكـم لـحـظة *** وحقكم إني عـلـيه مـقـيم

وكلما هبت نسـيم الـصَّـبـا *** من نحوكم عشت بذاك النسيم

واأسفي، متى رحلوا‏؟‏ ليت شعري، أين نزلوا‏؟‏

أنجدت الدار بهـم *** واتهم الوجد معي

مالت بالقوم ريح السحر ميل الشجرة بالأغصان، فهز منهم الخوف أفنان القلوب، فانتثرت الأفنان‏.‏ فاللسان يتضرع، والعين تدمع، والوقت بستان، خلوتهم بالحبيب تشغلهم عن نعم ونعمان، سورهم أساورهم، والخشوع تيجان، خضوعهم حلاهم فما در ومرجان‏؟‏ أخذوا قدر البلاغ وقالوا نحن ضيفان، باعوا الحرص بالقناعة فما ملك أنو شروان‏؟‏ رفضوا حتى زمام المبيع وما باعوا بثنيان، طالت عليهم أيام الحياة والمحب ظمآن، اطلع من خوخة التيقظ بعين التأمل تر البرهان، أين أنت منهم‏؟‏ ما نائم كيقظان، كم بينك وبينهم‏؟‏ أين الشجاع من جبان‏؟‏ ما للمواعظ فيك موضع القلب بالهوى ملان‏.‏

يا هذا‏:‏ قف على باب النجاح ولكن وقوف لهفان، واركب سفين الصلاح فهذا الموت طوفان، أيكون بعد هذا إيضاح‏؟‏ أو مثل هذا تبيان‏؟‏ يا لها من موعظة سحبت ذيل الفصاحة فحار سحبان، بغدادية أمامية مستفتية لا تعرف ضرب خراسان‏.‏

الفصل الثاني ‏[‏بدلا من الثاني‏]‏

أخواني‏:‏ أين الذين سلبوا‏؟‏ سلبوا طال ما غلبوا فغُلبوا، عمَّروا ديارهم فلما تمت خربوا، وديفت لهم كؤوس المنايا فأكرهوا وشربوا‏:‏

سير الليالي إلى أعمارنا خَـبَـب *** فما تبين ولا يعتاقـهـا تـعـبُ

وهل يؤملُ نيلُ الشمل ملتـئمـاً *** سفر لهم كل يوم رحلة عجـب

وما إقامتنا في منزلٍ هـتـفـتْ *** فيه بنا قد سكنا ربعه الـنـوب

وآذنتنا وقد تمـت عـمـارتـه *** بأنه عن قـلـيل داثـرٌ خَـرِبُ

ليست سهام قسى الموت طـائشة *** وهل تطيش سهام كلها صـيب

ونحن أغراض أنواع البلاء بهـا *** قبل الممات فمرميٌّ ومرتَقِـبُ

أين الذين تناهوا في ابتـنـائهـم *** صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا

أين أرباب الأماني والأمل‏؟‏ أخذوا بين سكر الهوى والثمل‏.‏

والذي علا على علي العلا نزل، وكأنه في الدنيا لم يكن وفي القبر لم يزل‏.‏

كل حي فقـصـاراه الأجـل *** ليس للخلق بذا الموت قـبـل

نوب أبدت لـعـادٍ قـبـلـنـا *** إن من ذات العماد المرتحـل

فانثنوا عن ذلك الشرب الـذي *** صار علا لسواهـم ونـهـل

ألبستْ قوماً سواهم حـلـيَهـم *** ثم بزته فعادوا بـالـعـطـل

فاسئل الإيوان عـن أربـابـه *** كيف جدت بهم تلك الـرحـل

نقلتهم عـن فـضـاء واسـع *** يمرح الطرف به حتى يمـل

نحن أغراض خطوب إن رمتْ *** عادتْ الأدرع لينا كالحـلـل

وإذا ما أخلفت أسـهـمـهـا *** فأصابت بطل القـوم بـطـل

جز على القبور بقلب حاضر، وسلها ما فعل الوجه الناضر‏؟‏ ثم افتح ناظر ناظر، وخاصم نفسك على التواني وناظر‏.‏

ومسندون تعاقروا كـأس الـردى *** ودعا بسيرهم الحمام فأسـرعـوا

خرسٌ إذا نـاديت إلا أنـهـــم *** وعظوا بما يرضي اللبيب فأسمعوا

والدهر يفتك بالنفوس حـمـامـه *** فلمن تعد كـريمة أو تـجـمـع

عجباً لمن تبقـى ذخـائر مـالـه *** ويظل يحفظهن وهـو مـضـيع

ولعـاقـل ويرى بـكـل ثـنـية *** يلقى له بطن الصفائح مضـجـع

أتُراه يحسب أنـهـم مـا اسـأروا *** من كأسهم أضعاف ما يتـجـرع

كم صاح بك واعظ‏؟‏ وما تسمع وكم حصلت ما يكفي‏؟‏ وما تقنع، لقد استقرضك مولاك مالك فمالك تجمع‏؟‏ وضمن أن نبت الحبة سبع مائة وما تزرع‏؟‏ تشتغل عن القرآن المنزل وتستمع من مغن يتغزل‏؟‏ تمشي إلى نجاتك مشي أقزل وتخرج إلى الحرب وأنت أعزل‏؟‏ ويحك إن والي الحياة عن قليلٍ يعزل كأنك بالسماء تمور وبالأرض تزلزل، تنصب ولا تدري أي الكفتين أنزل‏.‏

أخواني‏:‏ غرقت السفينة ونحن نيام، أبوكم لم يسامح في لقمته وداود عوتب على نظره‏.‏

يا مظهرين ضد ما *** به الكتـاب وارد

إلى متى تبهرجـو *** ن والبصير ناقـد

كيف يكون حالكـم *** وهو عليكم شاهد

عجبت من مستيقظ *** والقلب منه راقد

مضـيع لـدينـه *** وللـذنـوب رائد

كأنه علـى مـدا *** ه مهمل وخـالـد

فحسنوا أعمالكـم *** فهي لكـم قـلائد

ولا تضيعوا واجباً *** واجتهدوا وجاهدوا

إخواني‏:‏ أفيكم عازم على الصلح‏؟‏ أمنكم محب يضج من الهجر‏؟‏ أفيكم ذو وجد قلق من البين‏؟‏ الوقت يقتضيك يا عاص، منادي القبول على منازل الوصول يقول ‏"‏وسارعوا‏"‏‏.‏

الغـيم رطـب ينـادي *** يا غافلين الصـبـوح

فقلت أهلاً وسـهـلاً *** ما دام في الجسم روح

قد قيَّد الطرد قدميك وغل الأبعاد يديك، أفما لك عين تبكي عليك‏؟‏

وفي نظر الصادي إلى الماء حسرة *** إذا كان ممنوعاً سبيل الـمـوارد

على نوحٍ نَحْتُ السفينة، وأن يصيح اركبوا، فما ذنبه إن تخلف كنعان‏؟‏ إذا وقعت عزيمة العاصي على فراق دار المعاصي، هيأ مركب القصد وزّود سفر العزم وقام على أقدام الجد، وسعى على طريق الرجاء خائفاً من عارض رد، فيصيح به حينئذٍ هاتف القبول‏:‏

لئن قدمت من سفرة الهجر عيسكم *** تلقيتُها بالوصل من كل جـانـب

إخواني‏:‏ ما قعودكم وقد سار الركب‏؟‏ الحقوهم في المنزل، النجاء النجاء من شر الخلاف، ألوحا ألوحا قبل لحاق الأسلاف، الحذر الحذر من خطوات الخطايا، الهرب الهرب قبل بث الأماني بالمنايا، قبل أن تنزلوا الكفات وتلحقوا الرفات، وبين ماذا حل من آفات افات إلا أن تعاينوا الوفاة وفات‏.‏

الفصل الثالث‏[‏بدلا من الثالث‏]‏

عباد الله إنما الأيام طرق الجد، والساعات ركائب المجد، وأيام العافية أوقات تستدرك، وأحيان السلامة تنادي‏:‏ من جد أدرك‏.‏

كم للمنـية مـن ضـروب *** بين الحوادث والخطـوب

تدع الحبيب بـلا مـحـب *** والمحـب بـلا حـبـيب

لا والـذي هـو قــاذف *** بالحق عـلام الـغـيوب

وبحكمـه يمـلـي لـمـن *** يملي القبيح على الرقـيب

ما للنفوس مع الـمـنـية *** في السلامة من نـصـيب

هيهـات أين يفـوتـهــا *** لا بد من سهم مـصـيب

من دب فوق الأرض أصبح *** دارجـاً بـعـد الـدبـيب

فإذا تـغـيب تـحـتـهـا *** فكفاه بعداً بـالـمـغـيب

ولكم طويل العمـر لـيس *** لعيشه بالمـسـتـطـيب

ولربما انتزع الـقـصـير *** العمر من سـعة وطـيب

لا تيأسـن مـن الـبـعـيد *** وخف مباعـدة الـقـريب

فلكم حملت مع المـريض *** إلى الثرى نعش الطبـيب

إخواني‏:‏ احذروا دنياكم فإنها خادعة، وانتظروا حتوفها فهي لا ريب واقعة، أيها العبد إلى متى تشتغل بها عن مولاك وهو غيور‏؟‏ وكيف تغتر بغرير هوى يغري ويغور‏؟‏ وكم عدلتَ عن العدل وحاظرت المحظور‏؟‏ أتظن البقاء وقلائد الفراق كالأطواق في النحور‏؟‏ أما تعتبر بأقران قرنوا بقرائن أعمالهم في القبور‏؟‏ أما مواضعهم تضعك على وضع الوضائع والفتور‏؟‏ أما حلوا اللحود‏؟‏ فحالت حلى تلك البدور أما منازلهم إذ نازلهم مُنازلهم زال عنهم السرور‏؟‏ أبالى بفخرهم الموت‏؟‏ لا بل بلبل تلك القصور أين هم الآن قل لي‏؟‏ خلا خاليهم بالثبور، مال بهم عن المال ما لا يرد وصرفهم صرف الدهور، جرى بهم وما جار كما جارى الجار، جارى المقدور، أصبحت وجوههم الصبيحة مصطحبة شراب الدثور، مبانيهم أبينت فلو أُبينت لم تبن الأناث من الذكور، انفصمت عرى الأوصال وحلوا بالخصال فذو الوصال منهم مهجور، سكنوا بعد الودود مع الدود في اللحود كمأسور تكدر صافيهم فمصافيهم يجافيهم وما فيهم معذور، علا أعلاهم، علاء تراب كثير موقور، وسكن المكين في كمين إمكانه فاستكان في مكان محفور، بينا مترفهم قد اطمأن ‏"‏وظنَّ أن لنْ يحور‏"‏ إذا الأذى كالحذا، وكذا كل محتذ الغرور، وكم قال واعتذر فلما لم يذر قيل هذا الهذر زور صب الصاب في من صبا، فالصبا تسفي على منصبه والدبور، وسيأتيك يا فتى ما أتى من عتا حتى في الرواح أو في البكور، فانتبه فإن الموت يدور على ساكني الدور، ويلتقط أرباب القصور بلا فتور ولا قصور، وكأنك بالأمر قد فصل ‏"‏وحُصِّل ما في الصدور‏"‏ فمن جار قنطرة الهوى آب بتجارة لن تبور ‏"‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏"‏‏.‏

أين أهل الديار من قوم نـوح *** ثم عاد من بعدهـم وثـمـود

بينما القوم في النمارق والديباج *** أفضتْ إلى التراب الـخـدود

وأطباء بعدهم لـحـقـوهـم *** ضل عنهم سعوطهم واللـذوذ

وصحيحٌ أضحى يعود مريضاً *** وهو أدنى للموت ممن يعـود

يا قليل البضاعة بل يا مفلس ترجو النجاة بالمعاصي‏؟‏ لقد وسوس، أتلبس ثوب الشيب‏؟‏ ثم تلبس، جاء الصباح فنسخ حكم الحندس، وأطرق النيلوفر لما حدق النرجس، يا من يقوم من المجلس كما يجلس، كن كيف شئت فإنما تجني ما تغرس، ألك عذر قل لي‏؟‏ الباطل يخرس‏:‏

كيف الرحيل بلا زاب إلى وطن *** ما ينفع المرء فيه غير تقـواه

من لم يكن زاده التقوى فليس له *** يوم القيامة عذر عنـد مـولاه

يا رب إليك منا نتظلم أحوالنا تنطق عنا وما نتكلم وقلوبنا من ذنوبنا تبكي وتتألم، وأنت العالم الذي تعلم، أتتركنا للجهل‏؟‏ وأبونا منك تعلم يا من أخّر ما شاء كما شاء وقدم، لا تجعلنا ممن إذا رحل تندّم، يا من نبه الفضيل وابن أدهم، قد تركتنا الذنوب لا نشترى بدرهم‏:‏

يا عمادي في شدتـي ورجـائي *** عند فقري وكوكبي في المعامي

ساعتـي إن نـأيت يوم ويومـي *** مثل شهر والشهر مثل الـعـام

يا صاحب الخطايا لست معنا، يا مقبلاً على الهوى ما أنت عندنا، ضاعت حيلي في تحصيل قلبك، اشتدت حيرتي في تلافي أمرك، واعجباً، أخوِّفُك عواقب الأمور وما تتوب، وأشرح لك أحوال الصالحين وما تؤب، ومتى سقطت شهوة العليل دنا الموت، قد أوقدتُ نار المواعظ إلى جانب كسلِك ونفسُ عزيمتك شديد البرودة، وقد اتفق الأطباء على أن النفس البارد في المرض الحاد دليل الهلاك‏:‏

الموت في كل حين ينشر الكفنا *** ونحن في غفلة عما يراد بنـا

كان ما قد رأينا في أحبـتـنـا *** من الرحيل ونادى الدار ليس لنا

والله ما فاز سوى الزاهدين، ولا نال الربح غير العابدين، ونهاية الكمال للمحبين كان همُّ القوم طلب النجاة، وكانت لذتهم في المناجاة، فارتفع لهم القدر وعلا الجاه، لو رأيتهم في الأسحار وقد حار الخائف بين اعتذار واستغفار ولطائف، يتخلل ذلك دمع غزير ذارف، يرمز إلى شوق شديد متكاثف، كانت عابدة تقوم من أول الليل وتقول تشاغل الناس بلذاتهم وقد جئت، إليك يا محبوب‏:‏

سروري من الدهر لقياكم *** ودار سلامي مغنـاكـم

وأنتم مدى أملي ما حييت *** وما طاب عيشي لولاكم

جنابكم الرحب مرعى الكرام *** فلا صوح الدهر مرعـاكـم

حشا البين يوم رحلتم حشـايَ *** بنار الهمـوم وحـاشـاكـم

فيا ليت شعري ومن لي بـأنْ *** أعيشَ إلـى يوم ألـقـاكـم

إذا ازدحمت في فؤادي الهمومُ *** أعلل قلـبـي بـذكـراكـم

وأستنشق الريح من أرضكـم *** لعلـي أحـظـى بـرياكـم

فلا تنسوا العهد فيما مضـى *** فلسنا مدى الدهر ننسـاكـم

تالله لقد حصل للقوم فوز الدارين، ورضيتم أنتم بالبين من البين، تنبهوا يا نيام كم ضيعتم من عام‏؟‏ الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أحلام، غير أن عقل الشيخ بالهوى غلام، علام قتل النفوس علام‏؟‏ هل هو إلا ثوب وطعام‏؟‏ ثم يتساوى خز وخام، ولذات طيبات ووخام، إنما يعرف الفطناء لا الطغام، آه للغافل إلى كم يلام‏؟‏ أما توقظك الليالي والأيام‏؟‏ أين سكان القصور والخيام‏؟‏ دارت على الكل كأس الحمام ‏"‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏"‏ إلى متى مزاحمة الأنعام‏؟‏ ردوا هذه الأنفس بزمام ازجروا هذه القلوب عن الآثام اقرؤا صحائف العبر بألسنة الأفهام، موت الجيران شكل وأخذ الأقران إعجام، يا من أجَلَه خلفه وأمله قدام، رب يوم له مفتاح، ما له ختام، يا مقتحماً على الحرام أي اقتحام، ستعلم من يبكي في العقبى‏؟‏ عقبى الإجرام، ويشارك الندامى على الندامى والمدام، يا طويل المرض متى يبرى السقام، يا من إن قعد فللدنيا وكذا إن قام أول الدنيا هم وآخرها موت زؤام، حل لها الفراق وحرم عليها الدوام، سحابها لا يمطر وسماؤها قنام، كلها عيب في عيب وذام في ذام، أتعيبها عند محبها‏؟‏ متى يسمع العذل مستهام‏؟‏ خلِّها واخرج عنها بسلام إلى دار السلام فالجنة رخيصة ثم ما تغلو على مستهام، خذها إليك نصيحة من طب يداوي الأسقام، يضع الهناء موضع النقب ويعرف أصل الآلام ويركب المرهم عن خبر ويدبر كيف شاء الكلام، ما بعدها نصيحة تكفي والسلام‏.‏

آخر كتاب المدهش‏.‏

قد بلغ التمام والنهاية‏.‏

وفرغ منه منشيه عبد الرحمن بن علي بن الجوزي يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة حامداً لله سبحانه ومصلياً على محمد وآله وصحبه ومسلماً، آمين‏.‏